الأحزاب السياسية- فساد وانحطاط يعيق التنمية والديمقراطية

لا تزال رؤى ابن خلدون في مقدمته خالدة، إذ تكشف بجلاء عن الأسباب الجوهرية التي تعرقل تقدمنا وتفسر إخفاقات نهضتنا المنشودة. لقد صاغ صاحب المقدمة معادلة دقيقة تعكس بدقة الأوضاع الراهنة التي أثقل كاهلها الفساد المستشري، وحولها إلى خراب شامل. ورغم المبادرات العديدة المكلفة التي أطلقتها الدولة، والتي استنزفت موارد ضخمة من الخزينة العامة، إلا أنها عجزت عن تحقيق أي انفراجة ملموسة في الأزمات المتفاقمة، أو الحد من تفشي الفساد الذي أضاع على البلاد فرصًا ذهبية للتغلب على فيروس اقتصادي مدمر، وقوض أسس التنمية المستدامة.
الفساد يتغلغل في الأحزاب
وكما يقول علماء الأصول، فإن "سبب النزول" هنا هو التقرير الأخير الصادر عن المجلس الأعلى للحسابات، وهو مؤسسة دستورية عريقة في المملكة المغربية، والذي أماط اللثام عن وجود خلل جسيم في طريقة صرف الدعم المالي الذي تتلقاه الأحزاب السياسية من الدولة. وقد دفع هذا الكشف الجمعية المغربية لحماية المال العام إلى مطالبة النيابة العامة بضرورة استدعاء الأحزاب السياسية المعنية، وفتح تحقيق قضائي شامل للوقوف على حقيقة الخروقات والتجاوزات التي شابت وضعيتها المالية.
والأمر المثير للدهشة والاستغراب، أن هذه الأحزاب التي يُفترض فيها أن تتحمل مسؤولية جسيمة في مكافحة الفساد، وأن تلعب دورًا محوريًا في تخليق الحياة العامة، لم تستسغ هذا التقرير الذي فضح واقعًا مترديًا، استشرى فيه الفساد وتعاظمت فيه النزعات الانتهازية، وتحول فيه العمل السياسي النبيل إلى مجرد وسيلة للترقي السريع واقتناص الامتيازات وخدمة المصالح الشخصية الضيقة.
وبدلًا من أن تبادر الأحزاب السياسية المعنية بهذا التقرير إلى فتح تحقيق داخلي شامل لتحديد المسؤوليات واتخاذ الإجراءات اللازمة، عمدت إلى انتقاد المجلس الأعلى للحسابات، متهمة إياه بالتركيز بشكل مفرط على الأحزاب السياسية، وتصويرها وكأنها البؤر الوحيدة التي يغزوها الفساد، في محاولة للتغطية على تقصيرها والتنصل من مسؤولياتها.
تدهور واندثار
إننا نواجه انحدارًا غير مسبوق، ينذر بانهيار شامل وخراب مستقبلي. فكيف للأحزاب السياسية التي عجزت عن تدبير أموالها بشفافية ونزاهة، أن تتولى قيادة وتسيير شؤون البلاد بأكملها؟ هذه حقيقة دامغة، تضع الوطن في أزمة حقيقية ومأزق وجودي. فمن ناحية، خول الدستور للأحزاب السياسية مهمة تأطير المواطنين وتكوينهم السياسي، إذ نص صراحة على أن: "تعمل الأحزاب السياسية على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية". ومن ناحية أخرى، نلاحظ عزوفًا متزايدًا من قبل المواطنين عن هذه الأحزاب، لأنها لم تعد تعني لهم شيئًا يشجعهم على الانخراط في صفوفها، وخاصة الشباب الذي يمثل الشريحة الأكبر من المجتمع.
إن الأرقام التي تكشف عنها العديد من مراكز الدراسات والأبحاث تبعث على القلق والفزع، كما هو الحال بالنسبة للمعهد المغربي لتحليل السياسات. فقد سجلت نسبة عدم المشاركة في الأحزاب السياسية عام 2022 حوالي 96 في المائة، لتقفز بشكل صاروخي في السنة الموالية إلى 98 في المائة، مما يعكس حالة من الإحباط واليأس المتفشي في أوساط المواطنين.
وهذا الأمر يستدعي مساءلة دستورية للأحزاب السياسية حول الأدوار المنوطة بها في الدستور. فإذا أصبحت هذه الأحزاب منبوذة من قبل المواطنين، ولا تحظى بثقتهم لتمثيلهم والدفاع عن قضاياهم، فإن ذلك يثير تساؤلات مشروعة حول جدوى وجود هذا العدد الهائل من الأحزاب السياسية في الساحة المغربية، والذي تجاوز 34 حزبًا سياسيًا.
ففي العديد من الأنظمة السياسية المقارنة، تلجأ الأحزاب التي لا تحصل على نسبة معينة من الأصوات، وليكن مجموعها 4 في المائة، إلى حل نفسها أو الاندماج مع أحزاب أخرى. وليس في هذا أي ظلم أو إجحاف بحق هذه الأحزاب، لأن شرط العتبة الانتخابية يهدف إلى حماية المجال السياسي من التطفل والاكتظاظ بأحزاب هامشية لا تسهم بفاعلية في الحياة السياسية.
وإذا نظرنا إلى دولة موريتانيا المجاورة، التي تعاني من تعددية حزبية واسعة تتجاوز المائة حزب سياسي، نجد أنها قد سنت قانونًا جديدًا للأحزاب السياسية، يقضي بحل أي حزب لا يتمكن من تجاوز عتبة 1 في المائة في الانتخابات. فلا بد من سن قوانين مماثلة تكبح جماح هذه التعددية المرضية التي لا تمت بصلة إلى حرية التنظيم أو الديمقراطية الحقيقية.
فهناك العديد من الأحزاب السياسية في المغرب لم تتمكن من الفوز بمقعد واحد في البرلمان طوال تاريخها، وهناك أحزاب أخرى تبدو المسافة بينها وبين الوصول إلى إدارة الشأن العام شاسعة وبعيدة المنال.
ومما زاد الطين بلة، أن هذه الصورة القاتمة لوضع الأحزاب السياسية ساهمت فيها الأحزاب نفسها، فكلما ظهرت خلافات سياسية في صفوفها، عمدت إلى معالجتها عن طريق الانشقاق وتأسيس حزب جديد، بدلًا من الحوار والتوافق.
فالبنية الحزبية في عمومها تعاني من الانقسام والتشرذم، ويغلب عليها الطابع الشخصي والمصالح الفردية، أكثر مما تتحكم فيها المؤسسة الحزبية التي يُفترض فيها أن تكون قد غرست ثقافة راسخة وقيمًا نبيلة، ودربت أعضاءها على العمل الجماعي والالتزام بالمبادئ السامية، بدلًا من الولاء للأشخاص مهما كانت مكانتهم الحزبية.
فالثقافة السياسية التي رسختها الأحزاب السياسية – كما يقول إخواننا المشارقة – "خربانة" وبائسة، وتخترقها الولاءات الضيقة والاصطفافات المصلحية التي تتحول عند الأزمات إلى معاول هدم وتخريب لبنية الحزب، عبر التوجه مباشرة إلى الانشقاق، ما دامت أرض الله واسعة، كما يقولون.
الدولة تساهم في إضعاف الأحزاب
هذا الواقع المزري لم يكن وليد الصدفة، فالدولة تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية عن إنتاجه. ففي الوقت الذي كانت فيه الأحزاب السياسية الوطنية مرتبطة بالشارع ومعبرة عن تطلعاته ومصالحه المشروعة، لم تكن الدولة مرتاحة لقوة هذه الأحزاب وجماهيريتها الواسعة، وعملت جاهدة على إضعافها بكل الوسائل المتاحة.
ففي سنوات الرصاص التي حاولت هيئة الإنصاف والمصالحة طي صفحتها المظلمة، لم تكن الأحزاب السياسية التاريخية كالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والقوى اليسارية عمومًا على وفاق تام مع النظام السياسي، بل كانت العلاقة بينهما متوترة، ولم تكن السجون تخلو حينها من قيادات ومناضلي تلك الأحزاب. فإضعاف الأحزاب السياسية والتدخل السافر في قراراتها من قبل السلطة، أنتج واقعًا ضعيفًا ومترهلًا وفاقدًا للمصداقية. وهكذا فقدت هذه الأحزاب ثقة الناس وانفض الجمْع من حولها، وأصبحت عبئًا ثقيلًا على الوطن.
قبل فترة وجيزة ودّع المغاربة رمزًا وقائدًا وطنيًا استثنائيًا – إلى رحمة الله – هو المجاهد محمد بنسعيد آيت يدر، الذي يحكي في مذكراته أنه حينما عُرض التعديل الدستوري للاستفتاء سنة 1996، قررت منظمة العمل الديمقراطي الشعبي التي كان الراحل الرمز أمينًا عامًا لها، التصويت بـ "لا" على التعديل الدستوري. فما كان من وزير الداخلية آنذاك إدريس البصري، وبنبرة لم تخلُ من التهديد والوعيد، إلا مطالبة الراحل بنسعيد بالتراجع عن موقف المنظمة، وإلا فهناك من سيستجيب ويعلن التصويت بـ "نعم".
وفعلًا تمكن تدخل السلطة من شق صفوف المنظمة عبر ولادة قيصرية، وإغلاق جريدة "أنوال" الناطقة باسمها. وهذا مثال واحد من تدخلات عديدة، قربت أحزابًا وأقصت أخرى، لتجد الدولة نفسها في نهاية المطاف أمام مأزق حقيقي، يتمثل في غياب الوسيط النزيه بينها وبين الشعب.
استحالة تحقيق التنمية والديمقراطية في ظل الفساد
كان حريًا بالأحزاب السياسية أن تستخلص العبرة من تقارير المجلس الأعلى للحسابات، وأن تبادر إلى تطهير صفوفها من العناصر الفاسدة، بدلًا من الدخول في جدالات عقيمة للدفاع عن أوضاع تثير الكثير من الشبهات والريبة.
فإذا تسرب الفساد إلى الأحزاب، وهو ما نخشى أنه قد تمكن من بعضها بالفعل، فإن ذلك يعني استحالة تحقيق التنمية المنشودة وترسيخ الديمقراطية الهادفة في ظل هذا الفساد المستشري. فالتنمية والفساد نقيضان لا يجتمعان، والديمقراطية مع وجود أحزاب ضعيفة وفاسدة هي الأخرى ضرب من المستحيل والوهم.
فالدستور المغربي لسنة 2011، الذي جاء في أعقاب الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية، نص صراحة على ضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة. واليوم يتم الكشف عن اختلالات مالية وإدارية خطيرة، وعن اختلاس أموال عمومية طائلة، كما هو الحال في قضية التعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية، التي تم فتح تحقيق قضائي مع رئيسها السابق الذي كان يستعد للهجرة إلى بلد لا تربطه بالمغرب أية اتفاقية تعاون قضائي.
والملاحظ أن هذه القضية قد سجلت في الفترة ما بين 2010 و2019؛ أي في الحقبة التي تولى فيها حزب العدالة والتنمية قيادة الحكومة. وحينها أطلق رئيس الحكومة عبارته الشهيرة: "عفا الله عما سلف" بخصوص ملفات فساد سابقة، تتعلق باختلاس أموال طائلة من مؤسسات عمومية. وهي عبارة مع ضعف المراقبة والتفتيش، أطلقت يد الفاسدين في المال العام، وشجعتهم على الاستمرار في نهب ثروات البلاد. وهكذا يواصل الفساد طريقه، ليولد أزمات متتالية ويعطل مشاريع التنمية، ويرهق بذلك مستقبل الأجيال القادمة لسنوات طويلة.
لا يوجد حل جذري وفعال لمكافحة الفساد سوى التحلي بالإرادة القوية والعزيمة الصادقة لمحاربته بلا هوادة أو تهاون. فليس هناك وصفة سحرية للقضاء عليه. ومن أراد أن يعرف كيف يمكن إيقاف زحف الفساد الذي لا يبقي ولا يذر، فليعد إلى تجربة رواندا، هذا البلد الجريح الذي استطاع بعد حرب أهلية طاحنة أودت بحياة مليون مواطن من أبنائه، في صراع مرير بين أقلية التوتسي وأغلبية الهوتو أججه المستعمر الفرنسي السابق، أن ينهض من جديد، وينطلق بخطوات ثابتة نحو تحقيق تنمية حقيقية، تعوض الإنسان الرواندي عن السنوات العجاف التي ذاق فيها مرارة القهر والفقر وغياب الطمأنينة والأمان.
